الحجاج بن يوسف الثقفي وشبيب الشيباني: هجاء رجل الدولة، ومدح رجل الميليشيا

عبدالله المأمون

أهمل المؤرخون هروب شبيب الشيباني من أمام الحجاج بن يوسف الثقفي وترك امرأته للقتل، وركزوا على أبيات عمران بن حطان التي يتبجح فيها بنصر لم يتحقق! رغم أنها كانت هامشية لدرجة أن الطبري لم يأتِ على ذكرها في تاريخه.

لقد تحصن الحجاج بقصر الإمارة عندما دخل شبيب الكوفة، وبعد أن جرد ثلاث فرق عسكرية لقتال شبيب فشلت في التصدي له “خرج إليه الحجاج بنفسه فأزال شبيبا عن مسجده واقتتلوا قتالا شديدا وقتلت غزالة”1

ثم دخل الحجاج الكوفة حين انهزم شبيب ثم صعد المنبر، فقال:

«والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولَّى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في إستها القصب..»2

رغم أن الحجاج لم يفر من مبارزة غزالة كما هو شائع، فأقدم المرويات إنما تذهب إلى أن تلك الأبيات (أسد علي وفي الحروب نعامة) هجاه بها عمران بن حطان لأنه انسحب من جل الكوفة لترتيب قواته، فدخل شبيب المسجد ومعه غزالة الشيبانية “وقرأت وردها في المسجد وصعدت المنبر وكانت نذرت ذلك”3 والواقع أن انسحاب الحجاج كان مؤقتا.

علاوة على أن الظرف الذي هاجم فيه شبيب الكوفة دائما ما يتم حذفه على مجرى عادتنا في تسليط الضوء على البطولات الوهمية وإغفال حسن التدبير، فقد كانت جيوش الحجاج مفرقة في العراق، وكان قد أرسل إلى المهلب جيشا كبيرا ما جعله يستعين على شبيب بأهل الكوفة الذين كانوا دائما ما يفرون عنه، والأهم من ذلك أن الحجاج كان يتقي خذلانهم والقائد الحصيف لا يقاتل بجند يعلم أنه خاذله لا محالة، فروي أنه كتب إلى عبد الملك يطلب منه المدد، فلما وصل جند الشام واستغنى بهم عن أهل الكوفة خطب قائلا:

“أما بعد يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز ، ولا انتصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى…”4 ويظهر في مرويات أخرى أن أهل الكوفة إنما خرجوا خشية موجدة الحجاج وعبد الملك5

ويبدو أن الحجاج آثر قتال شبيب في الكوفة لكي يتلافى تفرق جيشه مرة أخرى، فروي أنه قال لأحد القادة: “ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا”6 وقد أثر عنه قوله: “لأنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل”7

فترك شبيب يسيطر على المسجد ويبر بنذره ونذر زوجته حتى إذا شعر بنشوة النصر خرج إليه.

وهو ما يختصره اليعقوبي في قوله: “ثم خرج الحجاج في طلبه يقاتله في سوق الكوفة أشد قتال”8 ويروي أبو مخنف أن موالي الحجاج وغلمانه خرجوا فأخذوا بأفواه السكك ومعهم بعض الكوفيين الذين تولوا حراسة بعض سككهم؛ أي شوارعهم.9 ليقود الحجاج جنده بعد ذلك —بنفسه— إلى النصر، وطرد شبيب عن الكوفة ثم تتبتعه فرق جيوش الحجاج حتى غرق في نهر دجيل.

فنشوة النصر المؤقت التي أصابت شبيبا وجنده بعد سيطرته على مسجد الكوفة مؤقتا وصلاة غزالة الشيبانية فيه كانت قاتلة، ولا يجب على القائد كما يقول ميكافيلي أن “يغامر أبدًا بكل ما يملك على أساس نجاح جزء من قواته”10 أما أبيات عمران بن حطان فيصدق عليها قول لينين: “لا تتبجح عند ذهابك للحرب، بل عند عودتك”.11

وقد كانت أم شبيب الشيباني قد قتلت في المعارك فيما قيل وكانت ترافقه في ساحة القتال، فانطبق عليه توصيف محمد بن الحنفية لشيعة أسرته: (وهي المعين الذي أفرز شبيبا فالخوارج منشقون عن الشيعة)

“لو كانت أم أحدهم التي ولدته لأغرى بها حتى تقتل”.12

ولا زالت رواسب هذه العقلية التي تمجد الانتصارات الفنتازية الوهمية، وتسطرها بالعبارات الجوفاء، تنحر العقل العربي والمسلم إلى اليوم، وترفع من رجل الميليشيا على رجل الدولة.

  1. تاريخ خليفة بن خياط الشيباني، (المتوفى ٢٤٠هـ)، ت: أكرم ضياء العمري، ط٢، ص٢٧٦ ↩︎
  2. تاريخ الرسل والملوك، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ت: محمد أبو الفضل ابراهيم، ط٢، دار المعارف، ١٣٨٧ هـ/ ١٩٦٧م، ج٦، ص٢٧٦ ↩︎
  3. تاريخ خليفة بن خياط، ص٢٧٤ ↩︎
  4. تاريخ الرسل والملوك، ج٦، ص٢٦٦ ↩︎
  5. المصدر نفسه، ص٢٦٩ ↩︎
  6. المصدر نفسه، ص٢٦٧ ↩︎
  7. أنساب الأشراف، ط- الفكر، ج١٣، ص٣٦٨ ↩︎
  8. تاريخ اليعقوبي، ت: عبد الأمير مهنا، ج٢، ص١٩٤ ↩︎
  9. تاريخ الرسل والملوك، ج٦، ص٢٦٧ ↩︎
  10. مطارحات مكيافيلي، نيقولا مكيافيلي، ط٣، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ١٩٨٢، ص٣٠٠ ↩︎
  11. المختارات، ج٨، ص٤٦٦ ↩︎
  12. لتاريخ الكبير لابن أبي خيثمة، ج٢، ص١٣٤ ↩︎

مقالات مشابهة