تأتي روايات مقتل طلحة بن عبيد الله على يدي مروان بن الحكم دائما كمنقذ لأهل السنة من هواجسهم التاريخية المرتبطة بقتل أحد الصحابة لصحابي آخر.
فقد خرج طلحة والزبير بدعم من عائشة أم المؤمنين إلى البصرة وقلبوا الأمر على علي ولم يكد يستتب له. ثم تواجه الجيشان وانتهت المعركة بقتل طلحة والزبير وعودة عائشة إلى المدينة وسيطرة علي بن أبي طالب إلى البصرة.
وقد وردت هذه الروايات عن كل من قيس بن أبي حازم وابن سيرين ونافع مولى ابن عمر، والجارود بن سبرة.
مبدئيا نقول:
لا تصح هذه الرواية بالأساس عن كل من نافع والجارود وقيس بن أبي حازم ولا حتى عن ابن سيرين.
1- أما الرواية عن الجارود بن سبرة فقد جاءت من طريق قتادة وهو مدلس وقد عنعن
قال خليفة بن خياط: حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة عن الجارود بن أبي سبرة الهذلي قال نظر مروان بن الحكم إلى طلحة بن عبيد الله يوم الجمل فقال لا أطلب بثأري بعد اليوم فرماه بسهم فقتله.
2- ورواية ابن سيرين:
قال البلاذري:
حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن زيد، ثنا قرة بن خالد، أنبأ محمد بن سيرين أن مروان رمى طلحة لما جال الناس يوم الجمل بسهم فأصابه فقتله.
وقد جاءت من طريق قرة بن خالد وهو يدلس حتى مع التصريح بالسماع.
قال يعقوب بن سفيان: قال علي: كان يحدثني عن الشيخ فيقول: قال حدثني قال أخبرني، فأفرح به، فيقول: تفرح بهذا، لم يكن ممن يعتمد عليه في هذا قرة، سمعت الحسن، قال: سمعت صعصعة، يقول: ها كذا هو
[المعرفة والتاريخ ٢/ ٥٣]
إضافة إلى أن حماد بن زيد لا يروي عن قرة بالأساس إلا هذه الرواية.
3- الرواية عن نافع:
جاءت الرواية عن نافع من طريقين:
الأول: من طريق قرة بن خالد والذي يدلس حتى مع التصريح بالسماع مما يجعله مستبعدا.
الثاني: من طريق جويرية بن أسماء وقد اتهمه عفان بن مسلم بسرقة حديثه ويتبين ذلك من روايته في طبقات ابن سعد:
قال عفان:
“كان جويرية بن أسماء صاحب علم كثير. وكان يمتنع لا يملي علينا. فجاءه إنسان فسأله عن قراءة القرآن على غير طهر فقال: ما عندي فيه شيء. فحدثته فيه عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما. قال فقال: لا أراك هاهنا. فحدثني وأملى علي. فلما أملى علي تركته فلم آته“.
وقد كان جويرية يتهم معاوية بالتآمر على عثمان ليأخذ الحكم لنفسه وهذه السردية مردودة على صاحبها فقد كان معاوية هو الخاسر الأكبر من مقتل عثمان وتعرض لحصار شديد في الشام من مصر والعراق بسبب مقتله فلم يكن ليجازف بكل هذا وهو لا يضمن الانتصار فالسردية التآمرية لجويرية تثبت تحامله على الأمويين وكان من رواة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر وهو شيعي ثار على بني أمية في آخر عهدهم.
الثالث: من طريق روح بن عبادة:
روح بن عبادة عن ابن عون عن نافع.
وروح بن عبادة كثير الخطأ، تكلم فيه عفان بن مسلم، وعبد الرحمن بن مهدي، وذكره العقيلي في الضعفاء.
4- رواية اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم:
حدث وكيع عن اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم بقتل مروان بن الحكم لطلحة بن عبيد الله.
وإسماعيل بن ابي خالد كان مدلسا، وقيس بن أبي حازم تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان.
وذكر علي بن المديني في علله أن قيسا لم يشهد الجمل.
والمتأمل في روايات اسماعيل بن أبي خالد في أهل الجمل يجدها متحاملة عليهم، وتشدد على فساد موقفهم، لدرجة أنه روى تفسير السدي الشيعي لآية قرآنية جعلها الأخير تذم أصحاب الجمل بزعمه! ويروي في ذات الوقت عن مجهول أن النبي قال للزبير: تقاتل عليا وأنت ظالم له! وهو في نفس الوقت يروي عن قيس حديث الحوأب رغم أن قيسا كان عثمانيا! حسب ما قيل فمن غير المعقول أن يروي مثل هذا.
فكانت روايات الرجل واضحة في مسارها الذي يحاول بكل طريقة تخطئة أصحاب الجمل. وتصويب علي في حربه عليهم. وقد سبق أنه مدلس ذكره غير واحد بذلك.
وقد روي عنه من طريق أبي أسامة تصريحه بالسماع.
وأبو أسامة اتهمه سفيان بن وكيع بسرقة الحديث، لكن سفيانا هذا كان ضعيفا! إلا أننا نجد ما يشير إلى هذا الاتهام عند وكيع نفسه، فيقول ابن أبى خيثمة:
“حدثنا محمد بن زيد قال: قال لى وكيع وسألته عن أبى أسامة فقال: أتانا فكتب عنا عن قيس ما ليس عنده. قلت: كأنه اتهمه؟ قال: نعم”
فالرواية الأصح عن إسماعيل إنما هي رواية وكيع بن الجراح التي لم يصرح فيها بالسماع من قيس بن أبي حازم، وهو مدلس فالرواية لا تصح عن قيس.
5- رواية يحيى بن سعيد الأنصاري:
ويحيى بن سعيد هو من أوائل القضاة العباسيين وذكر في كتب الشيعة الاثناعشرية على أنه من أصحاب الصادق، وهو واسع الرواية وزار الكثير من الأمصار الإسلامية وربما كان عنصرا فاعلا في الدعاية العباسية وهو قاضيهم، وقد روى هذا عن عمه وهو مجهول، ويحيى بن سعيد مدلس.
ويحيى بن سعيد يروي عن عمه -كما يزعم- أن عائشة كانت تؤلب على عثمان ثم انسحبت إلى مكة، وأن طلحة قاد الحصار ضد عثمان! فكأنما أراد أن يجعل أهل الجمل ثاروا على الخليفة وتسببوا في قتله ثم طالبوا بدمه نفاقا لانتقاص موقفهم
خلاصة حول مرويات قتل مروان لطلحة
الروايات ببساطة كانت بين “شلة من الرواة” وجلهم من البصريين الذين لا يصعب سماعهم من بعضهم البعض فكل من قرة بن خالد وقتادة من أصحاب الحسن البصري، وكذلك رواها عوف الأعرابي مرسلة وهو رافضي كما وصفه بندار وقدري وهو من أصحاب الحسن البصري أيضا.
وقد ذكر ابن معين في تاريخه من رواية ابن محرز أن قتادة رحل إلى الكوفة والتقى في تلك الرحلة اسماعيل بن أبي خالد. قال ابن محرز:
“وسألت يحيى عن اسماعيل بن ابى خالد قلت يحدث عن قتادة سمع ممه قال نعم بالكوفة قدم عليهم زمن خالد بن عبد الله” (تاريخ ابن معين رواية ابن محرز، 1/ 124)
وذكر جويرية بن أسماء ما يشير إلى لقاءه أيضا بقتادة، أو على الأقل، يجعل فرص اطلاعه على رواياته اكثر وجويرية اتهمه عفان بن مسلم بسرقة الحديث، وهو مديني- بصري.
جاء في مسائل الكرماني:
“حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، قال: ثنا جويرية، قال: سأل رجل قتادة عن القدر؟ فقال: رأي العرب أحب إليك أم رأي العجم؟ فقال الرجل: لا بل رأي العرب. قال قتادة: فإن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر”.
وكلام جويرية هنا غير صحيح فقتادة عرف عنه أنه قدري إلا أن في هذا دلالة على قرب جويرية من الوسط الذي نشأت فيه هذه الروايات.
وبهذه الطريقة لن نستغرب تعدد طرق هذه الرواية فقد كانت في صالح الجميع، فأهل السنة كانوا متعاطفين مع من خرج على عبد الملك بن مروان في دير الجماجم.
والشيعة يجتذبهم كل ما من شأنه الطعن في بني أمية وأصحاب الجمل، وأي طعن أكبر من أن نقول أنهم قتلوا بعضهم البعض؟ فهذا من باب أولى أن يجعل تصويب علي في تلك الحرب مستساغا!
ومن المفيد أن نقول هنا أن هذه الرواية غاية في السخافة ولا تحتاج إلى كل هذا التفنيد للأسانيد. لكن ابتلينا بقوم بلداء لا عقول لهم.
فبعض الروايات تصور عليا بلا دور في هذه الحرب فقد يأتي بالجيش وينتهي الأمر على هذا، ثم يقتل قادة الجيش المقابل دون علمه، علما بأن لا دليل على أن عليا علم بقتل مروان لطلحة الذي يزعمونه، والأهم من كل ذلك هو دور علي، ماذا كان بالضبط؟ مشاهدة خصومه وهم يقتلون بعضهم البعض!
الرواية غبية دون شك وهي مجرد محاولة لثلب أهل الجمل وانتقاص قضيتهم بدءا من اتهامهم بالتأليب على عثمان. وصولا إلى اتهام مروان بقتل طلحة، وعلي خلال كل هذا لم يفعل شيئا!
فالصحيح أن عليا وجيشه هم من قتلوا طلحة والزبير. وهو الطبيعي في معركة بين خصمين تنتهي بقتل قادة جيش أحدهما.
لا حواديت وقال وقيل.

